الجمعة، 21 نوفمبر 2014

من الشعراء الذين قتلتهم أشعارهم




ما من عربي يُسأل عن الشاعر الذي قتله بيت من شعره إلا ويجيب : 
هو المتنبي . أحمد بن الحسين الجعفي الكوفي .. وفي سبب إطلاق لقب المتنبي عليه روايات كثيرة متناقضة متضاربة ، أقربها إلى التصديق أنه أطلق عليه هذا اللقب لتكبره وغروره واعتداده بشخصيته حين شبه مقامه في قومه بمقام الأنبياء في قوله : 

ما مُقامي بأرض نخلةَ إلاَّ .. كمُقام المسيح بين اليهودِ 
أنا في أمَّةٍ تداركَها الله .. غريب كصالحٍ في ثمودِ 


عرف المتنبي بالذكاء والطموح الشديد والهمة العالية والجرأة والشجاعة ، كما اشتهر بحبه للثقافة والمعرفة ، وامتلاكه ناصية اللغة فجاء شعره معبرا عن شخصيته أتم تعبير . لمع نجم المتنبي في بلاط سيف الدولة الحمداني أمير حلب ، فقد وجد فيه ضالته المنشودة ، ووجد في شخصيته ما يتناغم مع صفاته فمدحه بغر قصائده ، وخلد انتصاراته ضد الروم البيزنطيين وبخاصة معركة الحدث التي سارت قصيدته فيها على كل لسان مبتدئا إياها بقوله : 

على قدْر أهل العزم تأتي العزائمُ .. وتأتي على قدْر الكرام المَكارمُ 
وتَعظمُ في عين الصغيرصغارها .. وتصغرُ في عين العظيم العظائم 


إلا أن خصوم المتنبي استطاعوا أن يوغروا صدر الأمير عليه بعد مدة فغادره إلى مصر وهو يقول : 

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا .. وحسْبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا 
حببْتُك قلبي قبل حبك مَن نأى .. وقد كان غدارا قكن أنت وافيا 


خاض المتنبي في أغراض الشعر العربي جميعها ولكنه برع أكثر ما برع في المديح والفخر والوصف والحكمة .. فمَن منا ينسى قصيدته في وصف شِعْبِ بوان أحد عجائب الدنيا في ذلك الزمان : 

مغاني الشِّعْب طيبًا في المغاني .. بمنزلة الربيع من الزمان 
ولكنَّ الفتى العربي فيها .. غريبُ الوجه واليد واللسانِ 


ومن منا ينسى قصيدته الرائعة في وصف الحمى : 


وزائرتي كأنَّ بها حياءً .. فليس تزور إلا في الظلام 


ومن منا في الحكمة لا يتمثل ببيت أو أكثر من أبياته التي سارت مسار الأمثال : 

إذا غامرتَ في شرف مَروم .. فلا تقنع بما دون النجوم 
كلما أنبتَ الزمان قناة .. ركَّبَ المرء في القناة سِنانا 
ومُرادُ النفوس أصغر من أن .. نتعادى فيه وأن نتفانى 
غير أن الفتى يُلاقي المنايا .. كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا 
وإذا لم يكنْ من الموت بُدٌّ .. فمن العجز أن تموت جبانا 


أما في المديح فقد كان من أعاجيبه ذلك المديح المبطن بالهجاء الذي خصَّ به كافورا الإخشيدي . 


قلت لصديقي : أراك نسيت أن تحدثني عن البيت من الشعر الذي قتل المتنبي ! 
فقال : إن ما قتله في الحقيقة هو هجاؤه ضبَّة بن يزيد الأسدي في قصيدته التي مطلعها : 

ما أنصفَ القوم ضبَّةّْ وأمـَّـه الطـّـرطُبــَّة ..

فلما قابله خال ضبة فاتك الأسدي في مجموعة من الفرسان فكر في الهرب فقال له غلامه كيف تهرب وأنت القائل : 
الخيْل والليْل والبيْداء تعرفني .. والسَّيْف والرُّمح والقرطاس والقلمُ ؟ فقال : قتلتني والله ، وقاتل حتى قتل ..

سألتُ صديقي : ما الطُّرطُبَّة ؟ فتبسم وقال هي صاحبة الثَّدْي الضخم المسترخي الطويل ، ولكنَّ الإقذاع ليس في هذه الكلمة فحسب ، وإنما هو في القصيدة برمَّتها .

....

ومن الشعراء الذين قتلتهم أشعارهم بشار بن برد ، وهو الشاعر الأعمى الفارسي الأصل من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية ، كان على رأس الشعراء المجددين الذين هاجموا الوقوف على الأطلال ومقدمات القصائد العربية ، واتهم بالمجون والشعوبية والزندقة ورقة الدِّين . يقال : إنه هجا الخليفة المهدي بعدما كان مدحه ، فأمر بجلده سبعين جلدة تعزيرًا بعد إدانته بتناول المسكر ، والأذان في غير وقت أذان مات بعدها . لكن من جيد شعره .. 

قوله في الصداقة : 
إذا كنتَ في كلِّ الأمور مُعاتبًا .
صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبهْ . 
فعش واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه . 
مُقارفُ ذنبٍ مرَّةً ومُجانبهْ . 
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى . 
ظمئتَ وأيُّ الناس تصفو مَشاربُهْ . 

و قوله في الشورى : 
إذا بلغ الرَّأي المَشورة فاسْتعِنْ . 
برأيِ نصيحٍ أو نصيحة حازم . 
ولا تجعل الشورى عليك غضاضةً . 
فإن الخوافي قوة للقوادم . 
وما خيرُ كفٍّ أمسك الغُلُّ أختها . 
وما خيرُ سيف لم يُؤيَّد بقائم . 
وخلِّ الهوينى للضعيف ولا تكن . 
نؤوما فإن الحزم ليس بنائم .
وحاربْ إذا لم تُعْط إلا ظلامةً . 
شبا الحرب خير من قبول المظالم . 
وأدْنِ على القربى المقرِّبَ نفسَهُ .
ولا تُشْهدِ الشورى امْرأ غير كاتم . 
فإنك لا تستطرد الهمَّ بالمنى .
ولا تبلغِ العليا بغير المكارم . 
إذا كنت فردا هرَّكَ القوم مقبلاً . 
وإن كنت أدنى لم تَفُز بالعزائم .
وما قارع الأقوامَ مثلُ مُشيَّع . 
أريبٍ ولا جلى العمى مثلُ عالم . 

قلت لصديقي : لكأنك بالاستشهاد بهذا الشعر تلمح إلى أن حكم المهدي على بشار كان قاسيا ! ردَّ صديقي : لا . على الإطلاق . فليس من حقي أن أفعل هذا ؛ لأن معاصريه أعلم به، وهو كما أنه له هذا الشعر الجميل المحلق فكذلك له شعر آخر يقدح في عقيدته ويجعلها في موضع الشبهة ، وإنه ينطبق على موضوعاته ما ينطبق على أسلوبه في الشعر بشكل عام حتى قيل :
إنه كان ينظم الشذرة إلى جانب البعرة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق