أحلُمُ بِكَ يا وطني
حلمٌ تمرُّ به السنونْ
ما زلْتُ أنتظر المجيءْ
وتباطأتْ أيامُه
ما زِلْتُ في حلُمي أهيمْ
ويطولُ فيهِ الانتظارْ
وطني هناكْ ....
والأمُّ تهْجرُها الحياةْ
لن يسكنَ الجرحُ المُعاندُ أقبيةً
أو عمْقَ ضبابْ
وطني المُهاجِرُ في بواديك الفناءْ
أملاحمي وقصائدي يحيا بها وطني الحبيبْ؟
كم تقطنُ الأوجاعُ في جرحي العنيدْ!
أو في جذوعِ شجيرةِ ثكلى على طرَفِ الغديرْ
أعروبتي اغْتيلتْ فيا حزنَ السماءْ؟؟
فهناكَ في وطني براكينُ الغضبْ
أو ثورةُ الأحجارِ بركانٌ وجَبْ
طفلٌ رمى
وردٌ نما
هلْ منْ عتَبْ؟
وذوَتْ كراماتُ العربْ
أهنا اغترابٌ أم عذابٌ أم جربْ؟
فهناكَ ينتحِبُ الزّمانْ
والسُّقْمُ في كَبدِ الأمانْ
أوطانُنا تغدو جَريرةْ
كنا نلقبُّها جزيرةْ
أملٌ سيرسمُ عزّتي
وعلى شفاهِ البرعمِ الورديِّ
لا نفسٌ ضعيفةْ
آهٍ كم افترسوا عقولَ الأقوياءْ
سرقوا من الأعراسِ أحلامَ الحياةْ
عذريّةِ العشقِ الجميل مع القُبَلِ
دُفنَتْ هناك على الرَّصيفْ
لكنَّ نوراً ما انطفأْ
لم ينقطعْ نورُ البصيرةِ
والبصَرْ....
ما زلتُ أرسمُ موطني
قبساً على وجْه الخريطةْ
يا موطني هل غيّروكْ؟
أم شوّهوكْ؟
ورفضتَ أقبيةَ البغاةْ
أو في الحظيرةْ
يأتونَ.. ينصرفونَ مثلَ الوهْمِ
في عزِّ الظهيرةْ
أو يرحلونْ ...
والحلمُ يبقى في الوُجودْ
في القلبِ ...في حدَقِ العيونْ ...
وطني هنا.... حلمي هنا
شامي هُنا
وبراءةُ الأطفال تزرعُ شمسَنا
في الأفْق في فجْر الشروقْ
وهناك ينتظرونَ أضواءَ القمَرْ
أو يقطفونَ النجمَ من غيمِ الصفاءْ
أو يجعلونَ من النسيمِ سكينةً
أمْناً بأحضان الورودْ
أو طيبةً بفمِ الرّغيفْ
أو سمرةَ الصيفِ الجميلةَ والنقاءْ
يا أيُّها الجسدُ العفيفْ
شيخوخةُ الآباءِ تحضنُ زرعَها
كوخاً يعانق فرحةً عيْنَ الرّصيفْ
وبطونُ سرَّاقي هنالك مُتخَمَةْ
لتكونَ في حُفرٍ لها كالمقبرةْ
كي يُدفنَ الجشعُ اللئيمْ
لم تبقَ ياوجعَ الرضيعْ
وحلمتُ في أرضي عزيزةْ
في حاكم من طيبِ أزهار البوادي والربوعْ
والعدلُ دستورُ البشرْ
لا لن ينامَ على الحريرْ
يصحو على سفْك الدماءِ
وفي الظهيرةْ
لايحملُ الحقدَ الدفينْ
لا يهنأُ القلبُ اللئيمْ
ويقيلُ في القتلِ البغيضْ
قيلولةً
يا موطني
كن حضنَ أمِّ
زوجة أو دفءَ أيامِ المِحنْ
كن أنتَ يا وطني رجالاً في الزمنْ
حلُمي أنا وطنٌ يضمّخهُ العبيرْ
وتترجمُ الأيام أحلامُ الوطنْ
فعروبتي تغدو النماءْ
فهي التي قد صاغَها العظماءُ
في أفُق السَّماءْ
"ابتدأت الكتابة بعبد الحميد ، واختتمت بابن العميد"
هذا ما يكاد يُجمع عليه مؤرخو الأدب والنقاد ؛ لِما لعبد الحميد الكاتب من فضْلٍ في نضج النثر الفنِّي العربي واكتماله فقد توسَّعت على يديه أغراض الرسائل لتشمل أغراضًا أخرى كانت خاصَّة بالشعر : كالتَّهنئة والتَّعزية والنُّصح والوصف وغير ذلك .. وكان أسلوبه يقوم على السُّهولة والوضوح ، والإكثار من التَّحميدات ، والإطناب ، والازدواج ، وقِصَرِ الفواصل والجُمَل .. فشهد له بالتمكُّن والبراعة والإبداع معاصروه ومَن أتى بعدهم إلى يومنا هذا ، وبقي له أثر في الكُتَّاب رَدْحًا طويلاً من الزَّمن .. شهد عبد الحميد الكاتب سقوط الدولة الأموية على يد العباسيِّين ، فلقد كان كاتبَ مروانَ بن محمد آخرالخلفاء الأمويين ، واضطر إلى أن يهرب معه إلى مصر ، ورفض أن يتركه وحده وينجو هو بنفسه . قال له مروان : إن إعجابهم بك يدعوهم إلى حُسْنِ الظَّنِّ فيكَ فاستأمِنْ لهم وأظْهِر الغَدْر بي ، فبذلك تنفعني في حياتي أو بعد مماتي .
ففال عبد الحميد :
أسِرُّ وفاء ًثم أظْهِر ُغَدْرةً .
فمَنْ لي بعُذْرٍ يُوسِع الناس ظاهرهْ . .
يا أمير المؤمنين إن الذي أمرتَني به أنفعُ الأمريْن لك ، وأقبَحُهُما بي ، ولكنَّني سأصبر حتى يفتحَ الله عليك أو أقْتلَ معك
فأصرَّ الخليفة على رأيه ، فتوارى عند صديقه وتلميذه عبد الله بن المقفع في البحرين ، فاكتشفه العباسِيُّون ولما وصل المكلَّفون بالقبض عليه إلى البيت ، سألوهما وهم شاكو السِّلاح: مَن منكما عبد الحميد ؟ فقال كلٌّ منهما أنا عبد الحميد ضنَّا بصاحبه من القتل ، وهمَّ الجند أن يقتلوا ابن المقفع فصاح عبد الحميد : إِّن لكلٍّ منا علامات فاسألوا مَن أرسلكم عنها ،فعادوا بأوصافه فعرفوه بها ، وقتلوه مأسوفًا عليه من الأدباء والكتاب جميعا ..
عندما كان عبد الحميد متواريًا مع الخليفة في مصر كتب لأهله رسالة مُؤثرة يقول فيها :
" أما بعد فإن الله تعالى جعل الدنيا محفوفةً بالمكاره والشرور ، فمَن ساعده الحظُّ فيها سَكَنَ إليها ، ومن عَضَّتْهُ بنابِها ذمَّها ساخطًا عليها .. وقد كانت أذاقتْنا أفاويقَ استَحْلبناها ، ثم جَمَحَتْ بنا نافرةً ، ورَمَحتنا مُولِّيةً .. فأبعدتنا عن الأوطان ، وفرَّقتنا عن الإخوان ، فالدار نازحة ، والطيْر بارحة ، وقد كتبتُ والأيام تزيدنا منكم بُعدا ، وإليكم وَجْدا ..نسأل الله الذي يُعزُّ مَن يشاء ، ويُذِلُّ مَن يشاء أن يَهَبَ لنا ولكم ألفةً جامعةً في دار آمنةٍ ، تجمع سلامة الأبدان والأديان فإنه ربُّ العالمين وأرحم الراحمين "
نظرتُ إلى صديقي فوجدت عينيه مغرورقتين بالدموع ، فلم أنبسْ بِبِنْتِ شَفَةْ .
السِّجن موتٌ بطيءٌ ، وخروجٌ من دائرة الحياة والمرءُ على قَيْدِ الحياة . فيه تعذيبٌ للرُّوح وللجسد معًا
ولا أقسى من أن يُسجَنَ الكائنُ الحيُّ أيًّا كان ! أو أن يُعزَلَ في زنزانةٍ ثم يُقال له :
هنا تحيا وهنا تموت ، وهنا تواجه سوء المصير .
يقول الشَّاعر عبد الله بن معاوية معبِّرًا عن فظاعة السِّجن وأحوال نازليه :
خَرَجْنا من الدُّنيا ونحنُ من اَهلِها
فلسْنا من الأحياءِ فيها ولا المَوْتى
إذا دخلَ السَّجَّانُ يومًا لحاجةٍ
عَجِبْنا وقلنا جاء هذا من الدُّنيا
ونفرحُ بالرُّؤيا فَجُلُّ حديثنا
إذا نحن أصبحنا الحَديثُ عن الرُّؤيا
فإنْ حَسُنَتْ كانت بطيئًا مَجيئُها
وإن قبُحَتْ لم تنتظِر وأتت سَعْيا
والسِّجن قد يكون للمجرم عقوبةً وجزاء ، وقد يكون لصاحب الرأيٍ شهرةً وذيوعًا وانتشارًا يجاوز الأرجاء
وقد يكون للنبيِّ تأييدًا لرسالته من الله وحصحصةً للحقِّ في براءته فيُقتدَى به اقتداء ، وقد يكون للعالمِ التقيِّ
الوَرِعِ امتحانًا وابتلاء ، وقد يكون للمظلومِ رفعًا لدرجاته عند العلي القدير بَدْءًا وانتهاء ...
من الشُّعراء الذين يُذكرون كلَّما ذُكِرَ السِّجن الحطيئةُ سجنه عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه لهجائه الزِّبرقانَ بنَ بدرٍ في قوله :
دَعِ المكارمَ لا ترحَلْ لِبُغيتِها .
واقعدْ فإنَّكَ أنتَ الطَّاعِمُ الكاسي .
فاستعطفَ عُمَرَ وهو في السِّجن في أبياته المشهورة التي يقول فيها :
ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي مَرَخٍ
زُغبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ
ألقيتَ كاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظلِمةٍ
فاغفرْ عليكَ سلامُ اللهِ يا عُمَرُ
فعفا عنه عمرُ رضي الله عنه ، وأخذ عليه عهدًا ألَّا يهجو أحدًا من المسلمين.
قلتُ لصديقي : لكأنَّك عَنيْتَ بالعالم التَّقيِّ الوَرِعِ الإمامَ أحمدَ بنَ حنْبل أو شيخَ الإسلام ابنَ تيْميَّة رحمهما الله ، فقال : عَنيْتُهما معًا .
ما من كاتب أو أديب سَبَقَ لقبُهُ القبيحُ اسمَهُ فغلبَ عليه كالجاحظ أبي عثمان عمرو بن بحر الكناني
فقد لقب بالجاحظ لجحوظ عينيه ، وطار هذا اللقب في الآفاق فلم يعد يعُرَفُ إلى يومنا هذا إلا به .
والجاحظ يعُدُّ أمير كُتَّاب النثر في العصر العباسي كما عُدَّ المتنبي أمير الشعراء .
تميز بسرعة البديهة والذكاء الشديد والذاكرة القوية والإحاطة بالعلوم الشرعية والعربية
التي كانت سائدة في عصره ، بالإضافة إلى الثقافات المترجمة عن الأمم الأخرى
على الرغم من أنه مثَّل الفكر العربي المناهض للشعوبية الحاقدة على العرب ...
كان الجاحظ نقَّادة من الطراز الأول وكان يُعلي من شأن العقل كثيرا
ولا عجب فقد كان على رأس فرقة من فرق المعتزلة عُرفت بالجاحظية ..
قام أسلوب الجاحظ على خصائص عديدة منها :
السهولة والوضوح ، والترسُّل في الكتابة والتوازنُ والازدواج والترادفُ حينًا ، والإرسال حينًا آخر
والملاءمة بين الألفاظ والمعاني ، والواقعية ، والاستطراد .
فقد كان يتنقل من شرح آيةٍ قرآنيةٍ إلى حديثٍ نبوي إلى مثَلٍ أو حكمة أو خبرٍ أو قصيدةٍ شعريَّةٍ
أو حكايةٍ شعبيةٍ مرويةٍ أو نكتة بلاغية .. الخ .. وبذلك أرسى مفهوم الأدب في عصره بأنَّه الأخذ
من كل فنٍّ بطرف ، كما قام أسلوبه على السُّخرية اللاذعة التي لم توفِّر حتى شخصيته الدَّميمة
حين يروي أن امرأة جاءت إليه وقالت له لي إليك حاجة ، ثم أمسكت بيده
وأخذته إلى دكان صائغ وقالت : مِثْلُ هذا . وانصرفت ..
فسأل الجاحظ الصائغَ عن الأمر فقال : ياسيِّدي طلبتْ مني أن أنقش على خاتمها صورة شيطان
فقلت لها : لا أعرف الشيطان ولم أره في حياتي ، فجاءت بك لظنها أنك تشبهه ..
مؤلفات الجاحظ كثيرة من أبرزها : كتاب الحيوان ، وكتاب البيان والتبيين ، وكتاب البخلاء
ورسالة التربيع والتدوير التي سخر فيها من معاصره وغريمه أحمد بن عبد الوهاب .
في الوقت الذي كان فيه صديقي يتحدث هذا الحديث عن الجاحظ خطر في بالي أن صدبقي المسكين
أصابه الخرَفُ لأن الجاحظ لم يقتله أحدٌ كما قُتِل عبد الحميد الكاتب وابن المقفع ، وإذا هو يسألني هل
تعرف كيف مات الجاحظ ؟ فأفقت من شرودي و أشرت إليه أنني لا أعرف ، فقال : طعَنَ الجاحظُ في السنِّ
حتى قارب التِّسعين وأصيب في نهاية حياته بالشَّلل في شقِّه الأعلى ، وبالنِّقْرس في شقِّه الأسفل
فكان يتألم كثيرا ، ويجد صعوبة كبيرة في الحركة إلى أن سقطت عليه مجموعة من كتبه كانت على
الرفِّ فأودت بحياته ..
هنا تذكرتُ بحقٍّ قول الشاعر :
من لمْ يَمُتْ بالسَّيْف مات بغيره . تعدَّدتِ الأسبابُ والموتُ واحدُ .
ما من عربي يُسأل عن الشاعر الذي قتله بيت من شعره إلا ويجيب :
هو المتنبي . أحمد بن الحسين الجعفي الكوفي .. وفي سبب إطلاق لقب المتنبي عليه روايات كثيرة متناقضة متضاربة ، أقربها إلى التصديق أنه أطلق عليه هذا اللقب لتكبره وغروره واعتداده بشخصيته حين شبه مقامه في قومه بمقام الأنبياء في قوله :
ما مُقامي بأرض نخلةَ إلاَّ .. كمُقام المسيح بين اليهودِ
أنا في أمَّةٍ تداركَها الله .. غريب كصالحٍ في ثمودِ
عرف المتنبي بالذكاء والطموح الشديد والهمة العالية والجرأة والشجاعة ، كما اشتهر بحبه للثقافة والمعرفة ، وامتلاكه ناصية اللغة فجاء شعره معبرا عن شخصيته أتم تعبير . لمع نجم المتنبي في بلاط سيف الدولة الحمداني أمير حلب ، فقد وجد فيه ضالته المنشودة ، ووجد في شخصيته ما يتناغم مع صفاته فمدحه بغر قصائده ، وخلد انتصاراته ضد الروم البيزنطيين وبخاصة معركة الحدث التي سارت قصيدته فيها على كل لسان مبتدئا إياها بقوله :
على قدْر أهل العزم تأتي العزائمُ .. وتأتي على قدْر الكرام المَكارمُ
وتَعظمُ في عين الصغيرصغارها .. وتصغرُ في عين العظيم العظائم
إلا أن خصوم المتنبي استطاعوا أن يوغروا صدر الأمير عليه بعد مدة فغادره إلى مصر وهو يقول :
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا .. وحسْبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا
حببْتُك قلبي قبل حبك مَن نأى .. وقد كان غدارا قكن أنت وافيا
خاض المتنبي في أغراض الشعر العربي جميعها ولكنه برع أكثر ما برع في المديح والفخر والوصف والحكمة .. فمَن منا ينسى قصيدته في وصف شِعْبِ بوان أحد عجائب الدنيا في ذلك الزمان :
مغاني الشِّعْب طيبًا في المغاني .. بمنزلة الربيع من الزمان
ولكنَّ الفتى العربي فيها .. غريبُ الوجه واليد واللسانِ
ومن منا ينسى قصيدته الرائعة في وصف الحمى :
وزائرتي كأنَّ بها حياءً .. فليس تزور إلا في الظلام
ومن منا في الحكمة لا يتمثل ببيت أو أكثر من أبياته التي سارت مسار الأمثال :
إذا غامرتَ في شرف مَروم .. فلا تقنع بما دون النجوم
كلما أنبتَ الزمان قناة .. ركَّبَ المرء في القناة سِنانا
ومُرادُ النفوس أصغر من أن .. نتعادى فيه وأن نتفانى
غير أن الفتى يُلاقي المنايا .. كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا
وإذا لم يكنْ من الموت بُدٌّ .. فمن العجز أن تموت جبانا
أما في المديح فقد كان من أعاجيبه ذلك المديح المبطن بالهجاء الذي خصَّ به كافورا الإخشيدي .
قلت لصديقي : أراك نسيت أن تحدثني عن البيت من الشعر الذي قتل المتنبي !
فقال : إن ما قتله في الحقيقة هو هجاؤه ضبَّة بن يزيد الأسدي في قصيدته التي مطلعها :
ما أنصفَ القوم ضبَّةّْ وأمـَّـه الطـّـرطُبــَّة ..
فلما قابله خال ضبة فاتك الأسدي في مجموعة من الفرسان فكر في الهرب فقال له غلامه كيف تهرب وأنت القائل :
الخيْل والليْل والبيْداء تعرفني .. والسَّيْف والرُّمح والقرطاس والقلمُ ؟ فقال : قتلتني والله ، وقاتل حتى قتل ..
سألتُ صديقي : ما الطُّرطُبَّة ؟ فتبسم وقال هي صاحبة الثَّدْي الضخم المسترخي الطويل ، ولكنَّ الإقذاع ليس في هذه الكلمة فحسب ، وإنما هو في القصيدة برمَّتها .
....
ومن الشعراء الذين قتلتهم أشعارهم بشار بن برد ، وهو الشاعر الأعمى الفارسي الأصل من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية ، كان على رأس الشعراء المجددين الذين هاجموا الوقوف على الأطلال ومقدمات القصائد العربية ، واتهم بالمجون والشعوبية والزندقة ورقة الدِّين . يقال : إنه هجا الخليفة المهدي بعدما كان مدحه ، فأمر بجلده سبعين جلدة تعزيرًا بعد إدانته بتناول المسكر ، والأذان في غير وقت أذان مات بعدها . لكن من جيد شعره ..
قوله في الصداقة :
إذا كنتَ في كلِّ الأمور مُعاتبًا .
صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبهْ .
فعش واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه .
مُقارفُ ذنبٍ مرَّةً ومُجانبهْ .
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى .
ظمئتَ وأيُّ الناس تصفو مَشاربُهْ .
و قوله في الشورى :
إذا بلغ الرَّأي المَشورة فاسْتعِنْ .
برأيِ نصيحٍ أو نصيحة حازم .
ولا تجعل الشورى عليك غضاضةً .
فإن الخوافي قوة للقوادم .
وما خيرُ كفٍّ أمسك الغُلُّ أختها .
وما خيرُ سيف لم يُؤيَّد بقائم .
وخلِّ الهوينى للضعيف ولا تكن .
نؤوما فإن الحزم ليس بنائم .
وحاربْ إذا لم تُعْط إلا ظلامةً .
شبا الحرب خير من قبول المظالم .
وأدْنِ على القربى المقرِّبَ نفسَهُ .
ولا تُشْهدِ الشورى امْرأ غير كاتم .
فإنك لا تستطرد الهمَّ بالمنى .
ولا تبلغِ العليا بغير المكارم .
إذا كنت فردا هرَّكَ القوم مقبلاً .
وإن كنت أدنى لم تَفُز بالعزائم .
وما قارع الأقوامَ مثلُ مُشيَّع .
أريبٍ ولا جلى العمى مثلُ عالم .
قلت لصديقي : لكأنك بالاستشهاد بهذا الشعر تلمح إلى أن حكم المهدي على بشار كان قاسيا ! ردَّ صديقي : لا . على الإطلاق . فليس من حقي أن أفعل هذا ؛ لأن معاصريه أعلم به، وهو كما أنه له هذا الشعر الجميل المحلق فكذلك له شعر آخر يقدح في عقيدته ويجعلها في موضع الشبهة ، وإنه ينطبق على موضوعاته ما ينطبق على أسلوبه في الشعر بشكل عام حتى قيل :
إنه كان ينظم الشذرة إلى جانب البعرة .
هي على منضدة التخدير أسلمت أمرها لمن لا ينام وودّعت بقلب واجف كلّ الذين رافقوها إلى هناك بسملت وردّدت بعض آيات وهي تجول بناظريها في كامل أنحاء الغرفة وغابت وبالنّفس صدى أمنيات وظلال أغنيات وأشواق لا تخمد ... إنّها لا تخاف الموت ولطالما صارعت هذا الدّاء الذي أبى إلّا أن يسكن عظامها وهي التّي رماها الدّهر بكلّ بنت ... كم كانت بيضا لياليها وسودا أيّامها وكم تجرّعت وحيدة ليالي أرق مريرةوترشّفت في جلَد علقم وجع عتيّ يفتّت أحشاءها، دون أن يُسمع لها أنّة أو زفرة بل كانت تداري ألمها بابتسامة تجتهد أيّما اجتهاد في رسمها دوما على محيّاها مهما أضناها السّقم وأبلاها السّهر ...
||||
لاشيء يستحقّ دموعها وقد جفّت المآقي منذ أمد ولا شيء يرغّبها في الحياة غير أن تتمّ رسالتها وتكون نعم السّند لأبنائها بعد أن هجرها أبوهم وهم لا يزالون زغب الحواصل ... هي لا تخاف الموت وقد غالبت النوائب ونازلتها حتّى أفزعتها، وهي لا تخشى الوجع وقد سكنها وسكنت إليه، وهي ما كانت لتكون على هذه المنضدة لولا حالتها الاستعجاليّة الطارئة وهرولة أبنائها فزعين وحملها إلى هنا ..غامت الدّنيا وغابت هي في خدر وظلّ الأبناء وبعض أهلها وذويها ينتظرون الفرج في ريبة وحيرة .. طال بهم الانتظار ولمّا تأت البشرى ... كلّ الأطبّاء والممرّضين الذّين دخلوا غرفة العمليّات ظلّوا بداخلها فلا خبر ولا كلمة واحدة تطمئن القلوب الواجفة الرّاجفة !
||||
طال بهم الانتظار وبدأت أشباح الملل والخوف ترتسم على الوجوه وشرعت الحناجر تكتظّ بالأدعية والابتهالات وطفقت الأيدي تتوسّل إلى العليّ القدير بالتضرّع والرّحمة وحسن الخاتمة وهطلت بعض المآقي ولم يصب بعضها الآخر غير طلّ بعبق بالأسى والانكسار، وتبادلت العيون ومضات ذابلة كما البرق في المرايا المتشظّية .. غرقت البنت الكبرى في غيبوبة الأسى وكأنّها قد استعصى عليها أن تتخيّل بيتا بلا أمّ ... وطفقت تسائل نفسها : " أيّ خراب سيحلّ بنا لو ..." وأجهشت بالوجع المربكِ القاتل ... التفّ حولها إخوتها ، يربّتون على كتفها وينثرونبعض لطائف الإيمان بقدرة الله على إنقاذ والدتهم، سندهم الوحيد في هذه الحياة القاسية ، بينما ظلّ الآخرون يتهامسون بما لا يدركه سواهم .
||||
فُتِح الباب الذّي ظلّ موصدا ساعات، هي الدّهر الجاثم عليهم وأطلّ منه الدكتور عمر ، الجرّاح وهو يشرع في نزع كمامته كمن يضع عن نفسه عبئا ثقيلا ... بادروه جميعهم بالسّؤال، راجين بارقة أمل تطمئن القلوب الكسيرة . ردّ عليهم بابتسامة باهتة تكلّفها تكلّفا وأشار بسبّابته إلى السّماء وهو يقول : " كل شيء بيد الله .. فعلنا ما بوسعنا ! " وحثّ الخطى هاربا من سيل الأسئلة المتدفّق شلّالا من أفئدة كليمة ... ردّد الجميع بصوت واحد : " ونعم بالله، هو الشّافي الكافي " وظلّت عيونهم معلّقة بباب غرفة العمليّات، تنتظر أملا يطرد جحافل الوساوس والهواجس ودفئا يذيب صقيع الرّوح الهائمة في براري الإمكان والمستحيل .. انفرج الباب بتؤدة لتتسلّل منه الممرّضة الشّابة وقد بدا الإرهاق على محيّاها فتورّست وجنتاها وذبلت عيناها وبادرتهم بصوت خافت: " إن شاء الله، ما ثمّ إلّا الخير... اُدعوا لها ربّكم يستجبْ لكم، فأبواب السّماء مفتّحة للأتقياء الصّالحين " وهرولت تلتحق بالدكتور عمر ..
||||
لم يطق الابن الأصغر صبرا فالتحق بالمكتب يسألهما ويلحّ في السّؤال , دون أن يشفيا غليله بما يُثلج صدره فيرتاح بعد سفر وأرق ووجع .. ظلّوا ينتظرون والباب موصد، يجلسون ويقفون ويتقرفصون، يمشون جيئة وذهابا ويتجمّدون أمام النّافذة كمن يستجلي خبرا من الأقاصي البعيدة، يجلي الهمّ ويزيل الكدر .. طال إغلاق
الباب وطال صمتهم ولفّ المكان خرس أدهم ثقيل وظلّوا ينتظرون ... وظلّت الأسئلة الصمّاء بالأعماق تترى فتلهب الأحشاء وتوسع الهامات قرعا والظُّهور جلْدا ... بيد أنّهم ظلّوا ينتظرون رذاذ أمنية وبريق لقاء في ظلال سنديانة وارفة المحبّة معطاء ...
||||
طال الانتظار والقلوب واجفة راجفة لا تغادر الباب الموصد الذّي يُمنَعُ الاقتراب منه إلّا على العاملين بما وراءه ولا شيء ينبئ بأنّه سيُفتَح أو يطلّ منه أحد أولئك الذّين دخلوا منه بميداعاتهم البيضاء أو الخضراء ... " تُرى ما هم فاعلون الآن بالخالة عائشة " وماهي فاعلة بهم ؟! ..
ودّوا لو تُفتَحُ لهم كوّة بحجم ما يرون منها الخالة عائشة ولو عن بعد وتمنّوا لو يسمعون لها همسة أو أنّة فتخمد فيهم حمّى الترقّب القاتلة ... " يا لغرفة الجراحة كم هو عصيّ دخولها وكم هو قاتل الانتظار أمام بابها ؟!! " لا مفرّ من الانتظار ولا منقذ غير الرّجاء ولا سلوى في ساعة البلوى غير الصّبر والوقوف بين يدي الرّحمن
في ضراعة من فقد الحيلة وأعوزته الوسيلة ..
||||
وفي غفلة منهم انفرج الباب لتهرول تلك الممرّضة وقد احتقنت وجنتاها إلى مكتب الدكتور عمر .. تابعتها جميع الأعين والمُهج في صمت أخرس ولهفة ماردة .. وما أن أسرّت إليه بما لم يتبيّنوا حتّى أسرع والممرّضتين إلى قاعة العمليّات وأحكموا غلق الباب .. لفّهم صمت مريب وغشّاهم حزن قاتم ثقيل وسربلهم إحساس دفين بقرب الفاجعة، وأيّ فاجعة تلك التّي ظلّوا يؤجّلونها منذ تسرّب إليهم مرض الخالة عائشة وإن جاهدت أيّما جهاد لإخفائه وتقاوت لدرئه، بل و عمدت إلى قهره بحياة نشيطة لا تعرف للفتور سبيلا وبمزاح خفيف مهذّب يُبهِج كلّ من عرفها واستأنس بجوارها ..
||||
تسلّلت الحاجة نجاة من بين كلّ المترقّبين، في تؤدة وقد عيل جلَدُها ودمي فؤادها وجفّت دموعها، ألما على ما آل إليه أمر أختها الوحيدة التّي لا ظلّ لأبنائها سواها ... اقتربت من الباب الموصد دونها حتّى لامسته وهي ترتجف خوفا وهلعا وإشفاقا وأصخت السّمع وأمعنت في الإصغاء إلى ما يقال في الغرفة المغلقة ... لم تصلها
بدءا غيرُ همهمات لم تتبيّنها ثمّ شيئا فشيئا وقع أقدام متسارعة وذبذبات أصوات متباينة متلاحقة وهات وخذ وأسرع واضغط .. كان نبضها يتسارع مع كلّ حركة تصل إليها وضغط دمها يرتفع مع كلّ همسة أو صرخة تلتقطها أذناها المنتصبتان رادارا يستكشف عن بعد ما لا يُرَى .
فجأة سمعت قرقعة وهدير محرّك أو هكذا خُيّل إليها، فتهاوت مغميّا عليها بعد أن صهلت صهيل فرس مقعدة هدّها الوجع وأضناها الخرَسُ .. أسرع إليها الجميع، يحملونها على الأيدي، يطلبون لها العافية وكثُرَ الهرج والمرج وتعالى الصّياحُ والنّحيب وتحوّل السّكون إلى فوضى عارمة، فلا هم بُشّروا بنجاة الخالة عائشة ولا هم قادرون على إسعاف الحاجة نجاة التّي غابت عن الوعي في غفلة منهم ..
||||
أسرع إليهم العون السّاهر على الجناح ، يستجلي الأمر ويدعوهم إلى الهدوء حتّى لا يضطرّ إلى إقصائهم عن هذا الفضاء الممنوع إلّا على الأطبّاء ومساعديهم .. صمتوا، خشية ورهبة وعيونهم تترجّاه أن يرفق بهم ويقدّر حجم آلامهم .. دعوه إلى العناية بالحاجة نجاة التّي أضحت شبه هامدة فأسرع يطلب من يسعفها، استعجالا ويترجّاهم في ذات الوقت أن يلازموا قاعة الانتظار حتّى يمنّ الله بالفرج .. استجابوا له إلّا ابن الحاجة نجاة الذّي أبى إلّا أن يظلّ إلى جانب أمّه حيثما كانت ، وبعد جدل واستجداء .. رافق الابن والدته إلى غرفة التمريض وأُخلي
المكان وران عليه صمت كئيب إلّا من رنين الهواتف بين الحين والحين ..
||||
ظلّت جبال الانتظار جاثمة وظلّ التصبّر صرحا إليه يأوون ومن نوافذه يبصرون ويترقّبون وعمّا وراء الأبواب يتساءلون ما أقسى أن توصد الأبواب دونك وفي أحشائها بعض منك أو أنت بعض منه بل ما أتعس الإنسان وهو يُجذُّ جذّا بلا مرحمة .. لا شيء يجدي غير التجلّد والتجمّل بالرّضى والثّبات... ألا مَن يؤنس أيّوب في رحلة الانتظار المميت ؟
أيّوب صامت ساكن والوجع يسحّ منه سحّا ...
أيّوب يمتلئ كيانه غيابا وهو ينتظر أن تُزفّ له بشرى الخلاص زفّا ...
أيّوب ملّ الانتظار، وهو لا يزال ينتظر أن تعصف به الذاريات عصفا فتنسف أوجاعه نسفا ...
أيّوب صامد حتّى يُفتَح الباب وقد ضُمِّد الجرحُ ومُسِح الدّمعُ وانبلج الصُّبحُ ...
أيّوب يلفّه الوجع، حتّى ما عاد يعرف للوجع لونا ولا للانتظار طعما ....
أيّوب أضحى مسمارا في ذاك الباب، ينتظر من ينتزعه انتزاعا حتّى يرى من كوّته والدته التّي لا حياة له بدونها .
||||
[ اسمعوا أيّها السيّدات والسّادة ، الخالة عائشة بدأت تستفيق وإنّها لناجية بإذن الله... عودوا إلى بيوتكم وخذوا قسطا من الرّاحة ]
ــ حمدا وشكرا لك يا الله !
ــ أحقّا ما تقول ؟!
ــ الله كريم وأرجو أن يتكرّم بعضكم فيتبرّع ببعض دمه، قبل أن تغادروا المصحّة
ــ ولكن، ألا يمكن أن أرى الوالدة ولو لدقيقة واحدة ؟
ــ سننقلها إلى غرفة الإنعاش وبعد ذلك يتسنّى لشخص أو اثنين، لا غير الطمأنة عليها
||||
تناظروا وكأنّ بعضهم يستسمح الآخر في أن يحظى الأوّل بعيادة الخالة عائشة والاطمئنان على صحّتها قال أكبرهم سنّا، في هدوء : احمدوا الله كثيرا على سلامتها ولا تزعجوها حتّى يذهب عنها مفعول التخدير
ــ لن نزعجها بل سنتسلّل إليها، في صمت وعلى أطراف أصابعنا
ــ ما لي أراكم نسيتم " الحاجة نجاة " في غمرة طربكم ؟ أليست هي الأَوْلى بالاطمئنان على أختها الوحيدة ؟
ــ بلى! وإنّك لمحقّ، فمن يطمئننا عليها أوّلا ؟
أفاق الجميع من ذهولهم وشرودهم وهم يتلاومون ويبحثون لأنفسهم عن أعذار فما ظفروا بغير أعصاب مشدودة وقلوب مرهقة أعماها سيف الانتظار وأخرستها سياط الخوف وحمّى الهلع .. تسابقوا يكفّرون عن سهوهم وتقصيرهم .. سألوا عنها العون فالممرّض فأُخبروا بأنّها نُقلت على جناح السّرعة إلى قسم أمراض
القلب والشرايين .. تهافتوا على عون الاستعلامات زرافات ووحدانا ..
لم يصدّق أحد النّبأ .. لقد رحلت إثر جلطة دماغيّة مباغتة حادة ...
ظنّوا في النعي خطأ والتباسا .. أصرّوا على مقابلة الطّبيب، رئيس القسم، علّه يكذّب النّبأ . الطّبيب غادر إلى بيته، بعد محاولاته المستميتة الفاشلة في إيقاف النّزيف وإجراء اللّازم ... اتّصلوا بمدير المستشفى، في هلع من لا يتوقّع الصّاعقة ..أخبرهم كاتبه بأنّ أهلها قد تسلّموا برقيّة في الغرض وأنّهم في طريقهم لتسلّم الجثّة .. جدّوا في البحث عن ابنها الذّي رافقها فما وجدوا له أثرا وظلّوا ينتظرون .. وينتظرون .. !
( إنتهى )
قصة مستواحة من الواقع !